فصل: الفصل الثاني عشر: قضايا النجاة والشفاعة والرحمة الإلهية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الفصل الحادي عشر: نقد الكلام وتمجيد النور الإلهي:

من أشد الناس غلوًا وإسرافًا، طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين، وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتنا، ولم يعرف الأدلة الشرعية بأدلتنا التي حررناها، فهو كافر. فهؤلاء ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده.. أولًا.
وجعلوا الجنة وقفًا على شرذمة يسيرة من المتكلمين، ثم جهلوا ما تواتر من السنة.. ثانيًا. إذ ظهر لهم في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعصر الصحابة، رضي الله عنهم، حكمهم بإسلام طوائف من أجلاف العرب، كانوا مشغولين قبل إسلامهم بعبادة الوثن، ولم يشتغلوا بعلم الدليل، ولو اشتغلوا به لم يفهموه.
ومن ظن أن مدرك الإيمان الكلام، والأدلة المجردة، والتقسيمات المترتبة، فقد ابتدع، بل الإيمان نور يقذفه الله في قلوب عبيده، عطية وهدية من عنده، تارة: ببينة من الباطن، لا يمكنه التعبير عنها. وتارة: بسبب رؤيا في المنام. وتارة: بمشاهدة حال رجل متدين، وسراية نوره إليه عند صحبته ومجالسته. وتارة بقرينة حال، فقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، جاحدًا به، منكرًا. فلما وقع بصره على طلعته البهية، زادها الله شرفًا وكرامة، فرآها تتلألأ منها أنوار النبوة قال: والله ما هذا بوجه كذاب، وسأله أن يعرض عليه الإسلام، فأسلم.
وهذا وأمثاله أكثر من أن تحصى، ولم يشتغل واحد منهم بالكلام وتعلم الأدلة، بل كان يبدو نور الإيمان بمثل هذه القرائن في قلوبهم، لمعة بيضاء، ثم لا تزال تزداد إشراقًا بمشاهدة تلك الأحوال العظيمة، وتلاوة القرآن، وتصفية القلوب.
فليت شعري!! متى نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة رضي الله عنهم، إحضار أعرابي أسلم، وقوله له: الدليل على أن العالم حادث: أنه لا يخلو عن الأعراض وما لا يخلو عن الحوادث حادث. وأن الله تعالى عالم بعلم، وقادر بقدرة زائدة على الذات، لا هي هو، ولا هي غيره، إلى غير ذلك من رسوم المتكلمين.
ولست أقول لم تجر هذه الألفاظ ولم يجر أيضا ما معناهه معنى هذه الألفاظ بل كان لا تنكشف ملحمة إلا عن جماعة من الأجلاف يسلمون تحت ظلال السيوف وجماعة من الأسارى يسلمون واحدا بعد طول الزمان أو على القرب وكانوا إذا نطقوا بكلمة الشهادة عُلِّموا الصلاة والزكاة ورُدّوا إلى صناعتهم من رعاية الغنم وغيرها.
نعم لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذِكْرُ أدلة المتكلمين أحدَ أسباب الإيمان في حق بعض الناس ولكن ليس ذلك بمقصورٍ عليه وهو أيضا نادرٌ.
بل الأنفع في معرض الوعظ كما يشتمل عليه القرآن.
فأما الكلام المحرر على رسم المتكلمين فإنه يشعر نفوس المستمعين بأنه فيه صنعة جدلٍ لِيَعجزَ عنه العامّيّ لا لكونه حقا في نفسه. وربما يكون ذلك سببا لرسوخ العناد في قلبه.
ولذلك لا ترى مجلس مناظرة للمتكلمين ولا للفقهاء ينكشف عن واحد انتقل من الاعتزال أو بدعة إلى غيره، ولا عن مذهب الشافعي إلى مذهب أبي حنيفة ولا على العكس. وتجري هذه الانتقالات بأسباب أخر، حتى في القتال بالسيف.
ولذلك لم تجر عادة السلف بالدعوة بهذه المجادلات بل شددوا القول على من يخوض في الكلام ويشتغل بالبحث والسؤال.
وإذا تركنا المداهنة ومراقبة الجانب صرّحنا بأن الخوض في الكلام حرامٌ لكثرة الآفة فيه، إلا لأحد شخصين:
- رجل وقعت له شبهة ليست تزول عن قلبه بكلام قريب وعظيّ ولا بخبر نقليّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجوز أن يكون القول المرتب الكلاميّ رافعا شبهته، ودواءً له في مرضه، فيُستعمَل معه ذلك ويخرِسُ عنه سمعُ الصحيح الذي ليس به ذلك المرض، فإنه يوشك أن يحرّك في نفسه إشكالا ويثير له شبهة تمرِّضُهُ وتستنزله عن اعتقاده المجزوم الصحيح.
- والثاني: ضخص كامل العقل راسخ القدم في الدين، ثابت الإيمان بأنوار اليقين، يريد أن يحصل هذه الصنعة ليداوي بها مريضا، إذا وقعت له شبهة، وليفحم بها مبتدعا إذا نبغ، وليحرس به معتقده إذا قصد مبتدع إغواءه.
فتعلُّمُ ذلك بهذا العزم كان من فروض الكفايات، وتعلُّمُ قدؤَ ما يزيلُ به الشك ويدرأ الشبهة في حق المشكل فرضُ عينٍ، إذا لم لم يمكن إعادة اعتقاده المجزوم بطريق آخر سواه.
والحق الصريح أن كل من اعتقد ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، واشتمل عليه القرآن، اعتقادًا جزمًا، فهو مؤمن، وإن لم يعرف أدلته، بل الإيمان المستفاد من الدليل الكلامي ضعيف جدًا مشرف على الزوال بكل شبهة. بل الإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع أو الحاصل بعد البلوغ بقرائن أحوال لا يمكن التعبير عنها.
وتمام تأكده، يلزمه العبادة والذكر، فإن من تمادت به العبادة إلى حقيقة التقوى وتطهير الباطن عن كدورات الدنيا، وملازمة ذكر الله تعالى دائمًا، تجلت له أنوار المعرفة وصارت الأمور التي كان قد أخذها تقليدًا عنه، كالمعاينة والمشاهدة، وذلك حقيقة المعرفة التي لا تحصل إلا بعد انحلال عقدة اعتقادات، وانشراح الصدر بنور الله تعالى.
{فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} {فهو على نور من ربه}. كما سئل صلى الله عليه وسلم عن معنى شرح الصدر، فقال: «نور يقذفه في قلب المؤمن» فقيل ما علامته؟ قال: «التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود» فبهذا يعلم المتكلم المقبل على الدنيا، المتهالك عليها، غير مدرك حقيقة المعرفة، ولو أدركها لتجافى عن دار الغرور قطعًا.

.الفصل الثاني عشر: قضايا النجاة والشفاعة والرحمة الإلهية:

لعلك تقول: أنت تأخذ التكفير من التكذيب للنصوص الشرعية، والشارع صلوات الله عليه هو الذي ضيق الرحمة على الخلق، دون المتكلم، إذ قال عليه السلام: «يقول الله تعالى لآدم عليه السلام يوم القيامة: يا آدم ابعث من ذريتك بعث النار». فيقول: «يا رب من كم؟» فيقول: «من كل ألف، تسعمائة وتسع وتسعين».
وقال عليه الصلاة والسلام: «ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة، الناجية منها واحدة».
الجواب: أن الحديث الأول صحيح، ولكن ليس المعنى به، أنهم كفار مخلدون، بل إنهم يدخلون النار، ويعرضون عليها، ويتركون فيها بقدر معاصيهم.
والمعصوم من المعاصي، لا يكون في الألف إلا واحدًا.
وكذلك قال الله تعالى: {وإن منكم إلا واردها}.ثم بعث النار عبارة عمن استوجب النار بذنوبه، ويجوز أن يصرفوا عن طريق جهنم بالشفاعة، كما وردت به الأخبار، وتشهد له الأخبار الكثيرة الدالة على سعة رحمة الله تعالى وهي أكثر من أن تحصى.
فمنهم ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة. فباتغيته، فإذا هو في مشربة يصلي، فرأيت على رأسه أنوارا ثلاثة. فلما قضى صلاته قال: مُهَيِمٌ، من هذه؟ قلت أنا عائشة يا رسول الله. قال: أرأيت الأنوار الثلاثة؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: إن آتٍ اتاني من ربي في النور الأول فبشرني أن الله تعالى يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب ولا عذاب. ثم أتاني في النور الثاني آت من ربي فبشرني أن الله تعالى يدخل الجنة من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفا سبعين ألفا بغير حساب ولا عذاب. ثم اتاني في النور الثالث آت من ربي فبشرني أن الله تعالى يدخل من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفا المضاعفة سبعين الفا بغير حساب ولا عذاب. فقلت يا رسول الله لا تبلغ أمتك هذا. قال: يكملون لكم من الأعراب من لا يوصم ولا يصلي.
فهذا وأمثاله من الأخبار الدالة على سعة رحمة الله تعالى كثيرٌ.
فهذا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة.
وأنا أقول: إن الرحمة تشمل كثيرًا من الأمم السالفة، وإن كان أكثرهم يعرضون على النار إما عرضة خفيفة، حتى في لحظة، أو في ساعة، وإما في مدة، حتى يطلق عليهم اسم بعث النار بل أقول: إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى أعني الذين هم في أقاصي الروم والترك، ولم تبلغهم الدعوة، فإنهم ثلاثة أصناف:
صنف: لم يبلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم أصلًا، فهم معذورون.
وصنف: بلغهم اسمه ونعته، وما ظهر عليه من المعجزات، وهم المجاورون لبلاد الإسلام، والمخالطون لهم، وهم الكفار الملحدون.
وصنف: ثالث بين الدرجتين، بلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغهم نعته وصفته، بل سمعوا أيضًا منذ الصبا أن كذابًا ملبسًا اسمه محمد ادعى النبوة، كما سمع صبياننا أن كذابًا يقال له المقفع، ادعى أن الله بعثه وتحدى بالنبوة كاذبًا.
فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول، فإنهم مع أنهم سمعوا اسمه، سمعوا ضد أوصافه، وهذا لا يحرك داعية النظر في الطلب.
وأما الحديث الآخر، وهو قوله: «الناجية منها واحدة» فالرواية مختلفة تمامًا فيه، فقد روي: «الهالكة منها واحدة». ولكن الأشهر تلك الرواية. ومعنى الناجية هي التي لا تعرض على النار، ولا تحتاج إلى الشفاعة. بل الذي تتعلق به الزبانية لتجره إلى النار، فليس بناج على الإطلاق، وإن انتزع بالشفاعة من مخالبهم.
وفي رواية: «كلها في الجنة، إلا الزنادقة»، وهي فرقة: ويمكن أن تكون الروايات كلها صحيحة فتكون الهالكة واحدة، وهي التي تخلد في النار، ويكون الهالك عبارة عمن وقع اليأس عن صلاحه، لأن الهالك لا يرجى له بعد الهلاك خير. وتكون الناجية واحدة: وهي التي تدخل الجنة بغير حساب، ولا شفاعة، لأن من نوقش الحساب فقد عذب، فليس بناج إذن، ومن عُرِّض للشفاعة فقد عرض للمذلة، فليس بناج أيضًا على الإطلاق.
وهذان طريقان، وهما عبارة عن شر الخلق وخيره. وباقي الفرق كلهم بين هاتين الدرجتين. فمنهم من يعذب بالحساب فقط. ومنهم من يقرب من النار، ثم يصرف بالشفاعة. ومنهم من يدخل النار ثم يخرج على قدر خطاياهم في عقائدهم وبدعتهم، وعلى كثرة معاصيهم وقلتها. فأما الهالكة المخلدة في النار من هذه الفرق، فهي فرقة واحدة، وهي التي كذبت وجوزت الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالمصلحة.
وأما من سائر الأمم فمن كذبه بعدما قرع سمعه بالتواتر عن خروجه، وصفته، ومعجزاته الخارقة للعادة، كشق القمر، وتسبيح الحصا، ونبع الماء من بين أصابعه، والقرآن المعجز الذي تحدى به أهل الفصاحة وعجزوا عنه فإذا قرع ذلك سمعه، فأعرض عنه، وتولى ولم ينظر فيه ولا يتأمل، ولم يبادر إلى التصديق، فهذا هو الجاحد الكاذب، وهو الكافر، ولا يدخل في هذا أكثر الروم والترك الذين بعدت بلادهم عن بلاد المسلمين.
بل أقول: من قرع سمعه هذا، فلابد أن تنبعث فيه داعية الطلب ليستبين حقيقة الأمر إن كان من أهل الدين، ولم يكن من الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة.
فإن لم تنبعث فيه هذه الداعية، فذلك لركونه إلى الدنيا، وخلوه عن الخوف وخطر أمر الدين وذلك كفر وإن انبعثت الداعية، فقصر عن الطلب، فهو أيضًا كفر.
بل ذو الإيمان بالله، واليوم الآخر، من أهل كل ملة، لا يمكنه أن يفتر عن الطلب بعد ظهور المخايل بالأسباب الخارقة للعادة فإن اشتغل بالنظر والطلب، ولم يقصر، فأدركه الموت قبل تمام التحقيق، فهو أيضًا مغفور له ثم له الرحمة الواسعة.
فاستوسع رحمة الله الواسعة، ولا تزن الأمور الإلهية بالموازين المختصرة الرسمية.
واعلم أن الآخرة قريب من الدنيا: ف {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة}. فكما أن أكثر أهل الدنيا في نعمة وسلامة، أو في حالة يغبطها، إذ لو خير بينها وبين الإماتة والإعدام مثلًا، لاختارها، وإنما المعذب الذي يتمنى الموت، نادر.
فكذلك المخلدون في النار بالإضافة إلى الناجين، والمخرجين منها في الآخرة، نادر.
فإن صفة الرحمة لا تتغير باختلاف أحوالنا وإنما الدنيا والآخرة عبارتان عن اختلاف أحوالك. ولولا هذا لما كان لقوله عليه الصلاة والسلام معنى حيث قال: أوّلُ ما خطّ اللهُ في الكتاب الأوّلِ: أنا الله لا إله إلا أنا، سبقت رحمتي غضبي، فمن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فله الجنة.
واعلم أن أهل البصائر قد انكشف لهم سبق الرحمة وشمولها بأسباب ومكاشفات سوى ما عندهم من الأخبار والآثار، ولكن ذكر ذلك يطول.
فأبشر برحمة الله وبالنجاة المطلقة إن جمعت بين الإيمان والعمل الصالح، وبالهلاك المطلق إذا خلوت عنهما جميع.
وإن كنت صاحب يقين في أهل التصديق، وصاحب خطإ في بعض التأويل، أو صاحب شك فيهما، أو صاحب خلط في الأعمال فلا تطمع في النجاة المطلقة.
واعلم أنك بين أن تعذب مدة ثم تخلى، وبين أن يُشفَعَ فيك من تيقنْتَ صدقه في جميع ما جاء به أو غيرِهِ.
فاجتهد أن يغنيك الله بفضله عن شفاعة الشفعاء، فإن الأمر في ذلك مُخطِرٌ.

.الفصل الثالث عشر: مأخذ التكفير:

قد ظن بعض الناس أن مأخذ التكفير من العقل لا من الشرع.
وأن الجاهل بالله كافر. والعارف به مؤمن.
فيقال له: الحكم بإباحة الدم والخلود في النار، حكم شرعي لا معنى له قبل ورود الشرع. وإن أراد به أن المفهوم من الشارع أن الجاهل بالله هو الكافر، فهذا لا يمكن حصره فيه؛ لأن الجاهل بالرسول وبالآخرة أيضًا كافر. ثم إن خصص ذلك الجهل بذات الله تعالى، بجحد وجوده، أو وحدانيته، ولم يطرده في الصفات فربما سوعد عليه. وإن جعل المخطئ في الصفات أيضًا جاهلًا، أو كافرًا، لزمه تكفير:
من نفى صفة البقاء وصفة القدم. ومن نفى الكلام وصفًا زائدًا على العلم. ومن نفى السمع والبصر زائدًا على العلم. ومن نفى جواز الرؤية. ومن أثبت الجهة. وأثبت إرادة حادثة لا في ذاته، ولا في محل. وتكفير المخالفين فيه.
وبالجملة يلزمه التكفير في كل مسألة تتعلق بصفات الله، وذلك حكم لا مستند له وإن خصص ببعض الصفات دون بعض، لم يجد لذلك فصلًا ومردًا، ولا وجه له إلا الضبط بالتكذيب، ليعم المكذب بالرسول وبالمعاد، ويخرج منه المؤول.
ثم لا يبعد أن يقع الشك والنظر في بعض المسائل، من جملة التأويل أو التكذيب، حتى يكون التأويل بعيدًا، ويقضي فيه بالظن، وموجب الاجتهاد.
فقد عرفت أن هذه مسألة اجتهاد.